تتعرض المرأة خلال مرحلة الحمل وما بعد الولادة لتغيرات هرمونية ونفسية واجتماعية عديدة، وقد تعاني من حالة تدعى باكتئاب ما بعد الولادة، وعلى الرغم من أن هذه الحالة مصنفة كمرض يحتاج للتشخيص والعلاج المناسبين، لاتزال العديد من السيدات يعانين من هذه المشكلة بصمت، إما لعدم معرفة الأعراض التشخيصية للاكتئاب الذي يحدث بعد الولادة، أو لخوفهن من الوصمة الاجتماعية التي قد تحيط بمثل هذه الاضطرابات.
وحول اكتئاب ما بعد الولادة (Post-Partum Depression)، تحدثنا إلى الدكتور مفيد رؤوف حمدي، اختصاصي الطب النفسي في مستشفى دانة الإمارات للنساء والأطفال، والذي قدّم معلومات كافية ووافية حول ماهيّة هذا المرض وأعراضه وأسبابه، ووجه نصائح قيّمة للسيدات المقبلات على الحمل ولأسرهن للتعامل مع هذه الحالة الصحية واكتشافها وعلاجها بشكل مناسب.
ما هو اكتئاب ما بعد الولادة؟
أوضح الدكتور حمدي أن اكتئاب ما بعد الولادة هو أحد الاضطرابات المزاجية التي تصيب النساء خلال السنة الأولى بعد الولادة. يتابع قائلاً: "في الحقيقة، فإن هذه الحالة لا تختلف عن الاكتئاب العام الذي يصيب أي إنسان آخر، أو يصيب النساء في أوقات غير الحمل وما بعد الولادة، ويعتمد اكتشافه على توفر الأعراض التشخيصية، وشدتها ووقت ظهورها، إذ يظهر عادة في الأشهر الثلاثة الأولى بعد الولادة، ولكن المتفق عليه في التصنيفات العالمية أن أي اكتئاب يصيب المرأة بعد الولادة حتى مرور عام عليها يعتبر اكتئاب ما بعد الولادة".
وبشر الدكتور حمدي بأن اكتئاب ما بعد الولادة هو اضطراب قابل للتشخيص والعلاج، لكن إهماله له تأثيرات كبيرة، ليس على المرأة فحسب، وإنما على طفلها وأسرتها، حيث تبدأ المرأة بإهمال الإرشادات الطبية ورعايتها لنفسها ونمط الحياة الصحي، وقد ترفض الرضاعة، وتتدهور علاقتها بزوجها وأسرتها وارتباطها بطفلها وتهمل صحته، كما لوحظ أن هذه الأعراض تؤثر سلباً على النمو المعرفي والاجتماعي للطفل ومهاراته الأكاديمية في المستقبل.
هل يصيب اكتئاب ما بعد الولادة جميع السيدات؟
أكد الدكتور حمدي أن اكتئاب ما بعد الولادة لا يصيب جميع السيدات، حيث إن معدلات انتشاره حسب الإحصائيات في الدول المتقدمة لا تزيد عن 15%، في حين تزيد هذه النسبة عن 25% في المجتمعات الأقل تقدماً وفي حالة تدني مستوى المعيشة والصحة البدنية. كما تشير الدراسات إلى أن 50% من حالات اكتئاب ما بعد الولادة تكون قد بدأت أثناء الحمل ولم يتم تشخيصها، سواءً بسبب عدم انتباه المحيطين بالمرأة للأعراض أو أن المرأة لم تتطوع للبوح بالأعراض للطبيب العام أو طبيبة النسائية، في حين أن 80% من حالات اكتئاب ما بعد الولادة تعبر من دون تشخيص وعلاج.
ما هي أعراض اكتئاب ما بعد الولادة؟
أوضح الدكتور حمدي إلى أنه هنالك 10 أعراض رئيسة لاكتئاب ما بعد الولادة، وفق التصنيف الدولي للأمراض الصادر عن منظمة الصحة العالمية. ويمكن تشخيص المرض عند توفر ما لا يقل عن خمسة منها لدى السيدة شرط أن يكون أحدها الشعور بالحزن والضيق أو فقدان الاهتمام والاستمتاع بتفاصيل الحياة، وأن تستمر الأعراض لمدة لا تقل عن أسبوعين، وأن تسبب تلك الأعراض كرباً نفسياً ملحوظاً مع تعطل القدرة على أداء المهام اليومية.
وتضم الأعراض:
1. الشعور بالحزن والضيق.
2. فقدان الاهتمام والاستمتاع بتفاصيل الحياة.
3. الشعور بالتعب والإجهاد من دون سبب.
4. ضعف التركيز والقدرة على اتخاذ القرارات.
5. اضطرابات النوم، وأكثرها شيوعاً الأرق، لكنها قد تكون عكس لك، أي زيادة ساعات النوم وقضاء معظم الوقت في السرير.
6. اضطراب الشهية للطعام، بعد الولادة سواءً فقدان الشهية والهزال ونقصان الوزن، أو زيادة الشهية للطعام.
7. تدني تقدير الذات والشعور بعدم الرضا عن النفس.
8. قلة مستوى النشاط الحركي، أو على العكس، زيادة الانفعال والهياج.
9. وجود أفكار سلبية عن الحياة مثل (عدم جدوى الحياة، أو تمنيات الموت، أو الأفكار الانتحارية).
10. الشعور باليأس.
وأشار الدكتور حمدي إلى أن التشخيص يحدث بعد التعرّف على الأعراض المذكورة والتأكد من استبعاد جميع الأسباب الباطنية العضوية لهذه الأعراض، والتي قد تحدث لحالات مثل فقر الدم أو خمول الغدة الدرقية أو نقص فيتامين "د" أو "ب 12"، علاوة على ضرورة التمييز ما بين اكتئاب ما بعد الولادة، وأحزان ما بعد الولادة (Post-Partum Blues) وهي حالة مشابهة للاكتئاب وشائعة بين النساء بعد الولادة إلا أن أعراضها أقل شدة، ولا تعطل حياة المرأة، ولا تعد حالة مرضية وغالباً لا تستمر لأكثر من أسبوعين. مع ضرورة تمييز الاكتئاب عن حالات القلق ما بعد الولادة.
ما هي أسباب اكتئاب ما بعد الولادة؟
إن أسباب اكتئاب ما بعد الولادة ليست واضحة بدقة حتى يومنا هذا، إلا أن الفرضية العلمية المقبولة، كما يقول د. حمدي، هي أن الاكتئاب ناجم عن تفاعل عوامل بيولوجية وبيئية نفسية واجتماعية. أي أنه يحتاج الى وجود استعداد بيولوجي فضلاً عن الظروف النفسية والاجتماعية التي تسهم في حدوث هذه الحالة. وتشير الدراسات الحديثة الى دور العوامل الجينية والهرمونية والتركيبية من قبيل تأثير الهرمونات الأنثوية على نشاط مناطق معينة في الدماغ. فضلاً عن التغيرات الهرمونية والضغوط النفسية والاجتماعية بعد الولادة.
وبين الدكتور حمدي أن الدراسات تشير الى مجموعة من عوامل الخطورة التي تزيد احتمالات تعرض السيدة لاكتئاب ما بعد الولادة، وتضم:
عوامل ما قبل الولادة
• التعرض للاكتئاب أو القلق خلال فترة الحمل.
• وجود تاريخ سابق للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة أو الاكتئاب عموماً.
• الضغوط النفسية والاجتماعية خلال الحمل.
• انعدام الدعم النفسي والاجتماعي خلال الحمل.
• عمر الأم لا سيما الحمل في عمر المراهقة.
• الحمل غير المخطط له، أو غير المرغوب فيه.
• ضعف الحالة الصحية العامة للسيدة، مثل وجود أمراض أخرى.
• استخدام محفزات الهرمونات.
عوامل ما بعد الولادة
• وجود تاريخ سابق لاكتئاب ما بعد الولادة، عند القريبات من الدرجة الأولى.
• حصول مشكلات أثناء الولادة، مثل الولادة كحالة طارئة.
• ولادة طفل بصحة غير جيدة.
• المشاكل الصحية التي تعيق الرضاعة الطبيعية.
• غياب الدعم النفسي والاجتماعي بعد الولادة.
ما هو علاج اكتئاب ما بعد الولادة؟
أوضح الدكتور حمدي أن علاج اكتئاب ما بعد الولادة يشبه علاج الاكتئاب الاعتيادي المعروف، ويحتاج أن يكون شاملاً ويتطلب وضع خطة علاجية تجمع بين الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية. ويشتمل على ضرورة تعزيز قدرة السيدة على الرعاية الذاتية، حيث تحتاج ألى تناول الغذاء الصحي وممارسة الرياضة إذا كانت مسموحة، وتخصيص بعض الوقت لنفسها لممارسة ما تحبه، وأن تسعى للحصول على ساعات كافية من النوم ليلاً. وأكد أهمية التثقيف والتوعية النفسية للسيدة ولزوجها وأفراد الأسرة كافة لفهم أعراض المرض وسبل التعامل معه وتخطي هذه المرحلة، فضلاً عن دور الأسرة في تقديم المساعدة والدعم العملي لها في تدبير شؤون بيتها، ورعاية أطفالها والحصول على ساعات كافية من النوم.
وبالعموم، يعتمد علاج اكتئاب ما بعد الولادة على شدة الحالة، إذ تحتاج الحالات البسيطة والمتوسطة الشدة للدعم والرعاية النفسية من خلال العلاج النفسي ومجموعات الدعم النفسي والاجتماعي، في حين تتطلب الحالات الأكثر شدة علاجاً دوائياً فضلاً عما سبق. وقد يصل الأمر لدخول المستشفى في الحالات المتقدمة، علماً أن الأدوية المضادة للاكتئاب آمنة خلال الحمل وبعده، تبعاً لإرشادات الطبيب. ومؤخراً أقرت إدارة الغذاء والدواء الأميركية أول دواء مخصص لعلاج حالات اكتئاب ما بعد الولادة ويؤخذ عن طريق الفم.
هل يمكن الوقاية من اكتئاب ما بعد الولادة؟
الوقاية دائماً خير من العلاج. وبالنسبة لاكتئاب ما بعد الولادة، تبدأ الوقاية قبل حدوث الحمل من قبل خط الرعاية الأول للمرأة، مثل طبيب الأسرة والطبيب العام وطبيبة النسائية، عبر توعية المرأة وتثقيفها حول أهمية صحتها النفسية، وتعليمها سبل التعرّف على أعراض القلق والاكتئاب خلال الحمل أو ما بعد الولادة، وتشجيعها على طلب المساعدة عند الحاجة والإفصاح عما تشعر به لطبيبها دون تردد أو حرج.
وأشار الدكتور حمدي إلى أنه يمكن لأطباء السيدة التحرّي عن عوامل الخطورة والاستعداد المسبق للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة. وفي حال وجودها، متابعة السيدة بشكل دوري للبدء بعلاج المشكلة قبل تفاقمها.
ونصح الدكتور حمدي أسر السيدات بتقديم الدعم اللازم لهنّ أثناء الحمل وبعد الولادة، وتفهم حالة السيدة المصابة بالاكتئاب والتعاطف معها والوقوف بجانبها ومساندتها، ومساعدتها في رعاية مولودها وإزالة الضغوط عن كاهلها وتمكينها من الحصول على قسطٍ كافٍ من النوم ليلاً. ووجه رسالة أخيرة للسيدات مفادها أن اكتئاب ما بعد الولادة هو اضطراب نفسي قابل للعلاج، وتحتاج كل سيدة لمعرفة ماهيّة هذه الحالة وتقبلها عند حدوثها وطلب المساعدة من دون تردد.
قد يهمك أيضا:
GMT 12:10 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر
تأثير الوجبات السريعة على ذكاء الأطفالGMT 11:56 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر
قلة التواصل مع الأطفال الرضع قبل عمر السنة قد يكون علامة علي التوحدGMT 15:00 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر
تأثير استهلاك الكافيين أثناء الحمل على الطفل والأمGMT 14:51 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر
أثر الرضاعة الطبيعية على معدل ذكاء الطفلGMT 09:53 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر
أخطاء ترتكبها الأمهات عند تغذية أطفالهن Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©
Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©
أرسل تعليقك