لم أعد أفهم كيف يمكن لنا أن نعبر عن ضيقنا وألمنا من الحياة، رغم إيماني أن لكل إنسان همومه، ولكن أن تكون أمّاً، وأن يكون لك عشرة أبناء وبنتين، يستشهد منهم عبد المنعم، وأربعة منهم محكومون بالمؤبدات؟ كيف لقلب أم أن يحتمل؟ لكن شيئاً في المعادلة مختلف هنا، فهي فلسطينية أولاً، ومن مخيم الأمعري ثانياً، ربما يعطي هذا مؤشراً على شيء ما...
أم ناصر، مرّ عليها وقت كان أبناؤها السبعة في السجن، وهي تنتقل من سجن إلى سجن، ومن مدينة إلى مدينة، تلاحق صورهم في المنام وعلى الجدران، بعد أن اعتقلوا جميعهم عام 2002، يا إله الصبر.
ـ ناصر محمد يوسف أبو حميد، في السابعة والثلاثين، محكوم بسبعة مؤبدات وعشرين سنة
ـ نصر محمد يوسف أبو حميد في الخامسة والثلاثين ومحكوم بخمسة مؤبدات
ـ شريف محمد يوسف أبو حميد في التاسعة والعشرين ومحكوم بأربعة مؤبدات
ـ محمد محمد يوسف أبو حميد، محكوم بمؤبدين وثلاثين سنة.
قرأتُ أوصافاً عن الحاجة لطيفة، مثل سنديانة فلسطين، وخنساء فلسطين... إلخ، لكنني وجدت كل هذه الألقاب سخيفةً وناقصة، فماذا سنخسر لو غيرنا اللغة، وأطلقنا على السنديانة وعلى الخنساء، وعلى فلسطين ذاتها، اسم الحاجة لطيفة؟
في العام 1935 ولد رب الأسرة محمد يوسف أبو حميد في قرية أبو شوشة قضاء الرملة، وفي عام 1948 هُجّر منها إلى مخيم النصيرات في قطاع غزة، وفي العام 1967 وعلى وقع هزيمة حزيران أنتقل للعيش في الضفة الغربية بعد أن تزوج وأنجب ثلاثة أطفال، ليستقر به المقام في مخيم الأمعري للاجئين وسط مدينة رام الله، ليعمل في تجارة المواد الغذائية ليعيل أسرته المكونة من عشرة أولاد وابنتين، وفي العام 2002 أصيب بإعاقة حركية وفقد بصره إثر تفجير الاحتلال لمنزله للمرة الثانية بسبب نشاط أبنائه في مقاومة الاحتلال، بعد أن هدمه للمرة الأولى في العام 1994.
تروي الحاجة لطيفة أبو حميد قصة معاناتها فتقول:"خلال 35 عاما لم تخلُ سجون الاحتلال من أبنائي، وفي العام 1994 ضمت السجون أربعة منهم في آن واحد، ولم يقف مكر الاحتلال عند هذا الحد بل سعت مخابراته لضرب التاريخ النضالي لأبنائي وتشويه صورتنا من خلال محاولة زرع جاسوس بيننا، ففي شهر رمضان من العام ذاته، اقتحم الاحتلال منزلنا وأخرجونا نحن والجيران في البرد القارص، وفتشوا البيت بحثا عن ابني عبد المنعم الذي كان مطلوبا في تلك الفترة، وعند انصرافهم سلمونا تبليغا لمراجعة مخابراتهم، في اليوم التالي ذهب عبد المنعم لمقابلة المخابرات ومن هناك تم اعتقاله وتحويله إلى مراكز التحقيق، وخلال فترة اعتقاله عرضت المخابرات على عبد المنعم العمل معهم مقابل إطلاق سراح إخوته الأربعة فوافق على ذلك ظاهريا، وتم الاتفاق بينه وبين الضباط على آلية لاغتيال مطلوبين من كتائب القسام في مدينة رام الله، وبعد 21 يوما أفرجوا عن عبد المنعم لتنفيذ المهمة، تفاجأنا من قيام الاحتلال بإطلاق سراح عبد المنعم خاصة بعد التهم الكثيرة التي كانت موجهة إليه وفترة المطاردة التي عاشها، فسارعت بسؤاله عن سبب الإفراج عنه بعد هذه الفترة القصيرة، فأجابني: انه استطاع خداع المحققين، عندها تيقنت أن في الأمر لغزا محّيرا، فوضعت ابني في دائرة الشك حتى جاءت ساعة الحسم، حين أُعلن عن قتل أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية الذي يدعى "نوعم كوهين" بعد إطلاق النار عليه في بلدة بيتونيا قرب رام الله، في عملية نفذها عناصر من كتاب القسام كان يتقدمهم ابنها عبد المنعم بتنسيق مع عناصر المجموعة.
بعد العملية أصبح عبد المنعم المطلوب الأول لمخابرات الاحتلال بعد أن أصبح يلقب "بصائد الشاباك"، لتبدأ رحلة من المطاردة لعدة أشهر، وكانت النهاية حين تمكن الاحتلال من رصده بعد عودته من المسجد الأقصى وملاحقته من قبل القوات الخاصة وتمت تصفيته في بلدة الرام بتاريخ 31/5/1994 بعد أن أطلق عليه المستعربون 150 رصاصة.
وتتحدث الحاجة لطيفة عن بقية أبنائها: "شارك ابني ناصر في جميع فعاليات الانتفاضة وبسبب ذلك اعتقل سبع مرات كان أولها وهو طفل لم يتجاوز الـ13 عاما".
ولم تكن والدته على علم بفتاها الصغير الذي كان يقود عشرات الملثمين في أيام التصعيد ضد الاحتلال، إلا بعد سماعها أنشودة "ناصر يا أبو حميد ... يا أسد مقنع" والتي ملأت بصداها شوارع وحارات الضفة الغربية.
وتشير والدته إلى أن ناصر قضى قرابة 27 عاما في سجون الاحتلال، وكان في بداية الانتفاضة الأولى قد حكم بالمؤبد بـ (4 مرات) وأطلق سراحه عقب اتفاق أسلو، ثم توالت الاعتقالات بحقه إلى أن تم اعتقاله برفقة شقيقه نصر بتاريخ 21/4/2002 حين حاصر الاحتلال المنزل الذي كانا يتحصنان بداخله في بلدة كفر عقب جنوب رام الله.
ومن لحظتها لا يزال ناصر ونصر رهن الاعتقال بعد أن أصدرت محكمة عوفر العسكرية حكما بحق الأول لمدة (7 مؤبدات) و(50 عاما)، بتهمة تأسيس كتائب شهداء الأقصى وتنفيذ سلسلة من العمليات ضد الاحتلال وجنوده، في حين حُكم نصر لمدة 5 مؤبدات.
تقول:"صرت بحاجة إلى كمبيوتر لحساب السنوات التي يقضيها أبنائي في السجون، ولا أدري كم سأعيش من هذه السنوات التي تمر علي بالألوان".
وعن ابنها شريف (31 عاما) تحدثت: "اعتقل بتاريخ 12/4/2002 عندما استهدف الاحتلال مقر جهاز الأمن الوقائي في بيتونيا حيث كان يعمل عنصرا في الأجهزة الأمنية، وكان حينها مطلوبا لقوات الاحتلال".
شريف اعتقل لمدة 9 أعوام في اعتقالات سابقة كان أولها حين كان عمره 15 عاما، على خلفية التخطيط والمشاركة في عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وعن محمد الأصغر بين أخوته، تقول: "في العام 2002 اعتقل محمد وعمره 18 عاما حيث كان مطاردا لعدة شهور بعد أن نصب له الاحتلال كمينا بالقرب من أحد المحال التجارية في رام الله، حيث كان يعمل في محل لبيع الدواجن ليحكم بالمؤبد مرتين و30 عاما."
وتضيف "إذا كان الاحتلال ينظر إلى أولادي على أنهم مخربين، فليعتبرنني المخرب الخامس ويحبسوني معهم، فقبل عامين كنت أطوف جميع السجون لزيارة أبنائي كل في سجنه، بينما اليوم فإني أزورهم جميعهم كل أسبوعين في سجن عسقلان، ولا يسمح لأحد من الأسرة بزيارتهم بدواعي الرفض الأمني".