أكد مدير متحف "مون ناتورا دلتا" جوزيف كلفي، خلال جولة رائعة بين الكثبان والبحيرات والمستنقعات التي تزخر بها مقاطعة كاتالونيا الإسبانية أن "البعوض يبقى المدافع الأول عن البيئة في تلك المنطقة ربما لأنه يبقي الناس بعيدا عنها"
وأوضحت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية في تقرير لها، الجمعة، أنه "على بعد حوالي 150 كم من الجنوب على طول الساحل من مدينة برشلونة، و50 كم فقط من ريوس، تبقى منطقة "بارك ناتورال ديل دلتا" هي أحد أكثر المناطق الرطبة على البحر المتوسط، حيث ستجد هناك كل الأنواع التي قد لا تجدها في أي مكان اخر على وجه الأرض، فقائمة الطيور في المنطقة تصل إلى أكثر من 300 نوعًا، لتشكل تلك المنطقة وحدها حوالي 60% من إجمالي الطيور المتواجدة في القارة الأوروبية ككل، من بينها أنواع النورس النادرة، والفلامنغو الكبير، بالإضافة إلى عقاب بونلي، إلا أن هذا المشهد ربما لا يشكل كل التراث الطبيعي الذي تمتلكه تلك المنطقة، حيث أن انتاج الملح، والذي يرجع تاريخه إلى العصور القديمة، وكذلك الأحواض اللامعة مازالت باقية حتى الان، كما أن الصيد أيضا ترك علاماته".
وأضافت الصحيفة: "صعدنا على سطح أحد المنازل المملوكة لصياد سابق، لنجد أن المياه أدناه تنتج ألفي طن من المحار، و5 ألاف طن من الرخويات، والتقينا بعد ذلك مع عالمة البيئة البحرية مارينا جونزاليس سالفادو، والتي كانت مرشدا لنا في طريق يبلغ طوله 20 كيلومتر حول بحيرة "لباسا دي لي اولي"، والتي تعد أصغر بحيرات الدلتا، حيث كان هناك الطريق طويلا خاليا من السيارات، بينما كانت الزهور البرية تغطي الطريق. كنا نعبر الجسور التي تعلو قنوات الري سريعة التدفق، في حين كانت رائحة البحر تهيمن على المكان، إلا أن تلك المنطقة لم تكن دائما تحظى بالسلام، حيث أنها شهدت العديد من الصراعات على مدار القرون المتتابعة، ففي عام 218 قبل الميلاد، شهدت تلك المنطقة معركة بحرية حاسمة لتنهي الحرب البونيقية، والتي اندلعت بين روما ودولة قرطاج "تونس الان"، ليصبح النهر بعد ذلك بمثابة الخط الأحمر الذي يجتازه هانيبال ليعيد بلاده من جديد إلى المشهد، إلا أن التاريخ الصراعي للمنطقة لم يقتصر على تلك الحقبة القديمة، حيث أن الصراعات التي شهدتها المنطقة امتدت كذلك للعصر الحديث، ففي عام 1938، تنازع القوميون والجمهوريون بشراسة على شواطيء ايبرو، لتصبح تلك المعركة بمثابة أعنف معركة خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وفي شهر يوليو من نفس العام، واجهت القوات القومية، بقيادة القائد الفاشي فرانكو الجيش الجمهوري في معارك دامية عبر ضفاف النهر لتنتهي بألاف القتلى، حيث يقدر أعداد الذين فقدوا حياتهم خلال تلك المعركة، بداية من يوليو 1938 وحتى منتصف نوفمبر من نفس العام حوالي 20 ألف شخص، أما الصراع الأخير الذي شهدته المنطقة ربما كان أكثر هدوءا من سابقيه، إلا أنه لم يقل عنهم شراسة، حيث تظهر ملامحه في رسوم الجرافيتي المتناثر على الحوائط المحيطة بضفاف النهر، والتي أعرب فيها سكان المنطقة على مد استخدام مياه النهر في مناطق أخرى من إسبانيا، والتي تعد من وجهة نظر الكتالونيين، دولة أخرى".
ووتابعت الصحيفة: "في الميناء، بينما كنا على متن قارب روبن كابريرا، حيث كان يتوجه بنا إلى الجسور الخشبية عبر المياه الضحلة، حيث يقول "لقد عاشت عائلتي هنا لسنوات طويلة ربما امتدت إلى أكثر من 34 عامًا ويستطرد أن صيادي المحار يعانون كثيرا في المرحلة الراهنة، حيث أنهم يقومون بالإنتاج مرة واحدة في العام، بينما كانوا معتادين من قبل على تحقيق أكثر من ذلك، وأضاف "ربما تسألون عن السبب وهو أن هناك نقص شديد في المواد المغذية للمحار والأسباب في ذلك كثيرة للغاية، منها محطات الطاقة الكهرومائية، وكذلك النقص الكبير في المياه الحلوة بالإضافة إلى نقصان كمية الطمي، وسخونة المياة بفعل التغيرات المناخية."
في خليج فانجر، توقف القارب لنصعد على أحد الجسور الخشبية ونجد الغذاء بانتظارنا، حيث كانت هناك نوعان من الصحون، أحدهما مصنوع من المحار وأخر مصنوع من بلح البحر، بالإضافة إلى وعاء مملوء بأرباع الليمون، بالإضافة إلى زجاجة من الكحول وسط جو من النضار والبساطة واشعة الشمس، وفي وقت لاحق دخلنا إلى العمق أكثر فأكثر، لنجد أنفسنا أمام القرية التي يعلوها قلعة الداوي، حيث تبقى الصخور مطله على المياة.
وأكد المرشد والفنان أوريليو مونجي عن تلك القرية أنها "بمثابة مجتمع ابداعي منذ الستينات من القرن الماضي، حيث أن معظم سكانها ينتجون أعمالا فنية من أجل الفن، وليس من أجل المال... إنها بوهيمية حقا"، إنها بالفعل قرية بوهيمية، حيث تجد المعارض الفنية على طول الطريق في الأزقة والشوارع، تخرج من جدران المنازل، لتجد تحفا فنية من اللوحات الرائعة أو أواني الفخار، كنا نهيم على وجوهنا في الشوارع الضيقة والأزقة، في تلك المناطق التي شهدت عدة حروب أهلية، حيث ذهب دالي إلى هناك راغبا في شراء القلعة، ولكن الذي كان يملكها اناركيا، وكان يعلم أن دالي هو أحد المقربين من فرانكو، ولذلك رفض بيعها له"، وهنا تساءلت عن قضية المياه واستخراجها، ليشير أوروليو إلى رسوم الغرافيتي الغاضبة، ويقول "نعم، ففي تلك الشوارع خرج الأجداد إلى الشوارع يتظاهرون لحماية حقهم في المياة. كانوا يقولون أن هؤلاء الذي يرغبون في الحصول على المياه كانوا السبب في الحروب الأهلية المتواترة التي شهدتها المنطقة، وهاهم الأبناء يواصلون المسيرة. يبدو أنه صراع أيديولوجي مستمر."
وبعد النهر، تجد العاصمة تورتوسا، حيث تظهر الكاتدرائية الضخمة التي لم يكتمل بناؤها منذ القرن الرابع عشر، حيث مر أكثر من 78 عام كاملة عندما قام ارنست همنغواي، والذي عمل كمراسل حرب، بكتابة تقريره الشهير الذي يحمل عنوان "قصف طرطوسه"، حيث قامت مجموعة من الطائرات الألمانية والإيطالية بقصف المدينة من مستوى منخفض بوابل من القنابل في ابريل 1938، لتكون الواقعة بمثابة مقدمة للحرب العالمية الثانية، والتي اندلعت بعدها بعام واحد، ومازالت أثار هذا القصف موجودة بالمدينة إلى يومنا هذا، أما اليوم وقد تبددت تلك الصراعات الدموية، إلا أن النضال مازال قائما، وربما لا يقل جدية عن الماضي، حول مستقبل تلك المنطقة، حيث أن هذا الجزء من كاتالونيا يبقى رافضا للتنازل على أي حفنة تراب من أراضيه.